فصل: تفسير الآيات (8- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.سورة الحجرات:

مدنية.

.تفسير الآية رقم (1):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قرأ يعقوب: {لا تقدموا} بفتح التاء والدال، من التقدم أي لا تتقدموا، وقرأ الآخرون بضم التاء وكسر الدال، من التقديم، وهو لازم بمعنى التقدم، قال أبو عبيدة: تقول العرب: لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب، أي لا تعجل بالأمر والنهي دونه، والمعنى: بين اليدين الأمام. والقدام: أي لا تقدموا بين يدي أمرهما ونهيهما. واختلفوا في معناه: روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى، وهو قول الحسن، أي لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن ناسًا ذبحوا قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن يزيد، عن الشعبي، عن البراء قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء».
وروى مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك، أي: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة، أن عبد الله بن الزبير أخبرهم، أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أَمِّرِ القعقاع معبد بن زرارة، قال عمر: بل أَمِّرِ الأقرع بن حابس، قال أبو بكر: ما أردتَ إلا خِلافي، قال عمر: ما أردتُ خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت في ذلك: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} حتى انقضت.
ورواه نافع عن ابن أبي مليكة، قال فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} إلى قوله: {أجر عظيم}، وزاد: قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر عن أبيه، يعني أبا بكرٍ.
وقال قتادة: نزلت الآية في ناس كانوا يقولون: لو أُنزل في كذا، أو صُنع في كذا وكذا، فكره الله ذلك.
وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه.
وقال الضحاك: يعني في القتال وشرائع الدين لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} في تضييع حقه ومخالفة أمره، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوالكم، {عَلِيمٌ} بأفعالكم.

.تفسير الآية رقم (2):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَه بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده، ولا ينادونه كما ينادي بعضهم بعضًا، {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} لئلا تحبط حسناتكم. وقيل: مخافة أن تحبط حسناتكم، {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} الآية، جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى؟ فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى، قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل هو من أهل الجنة».
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي، فمر به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ، وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي، وأن أكون من أهل النار، فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغلب ثابتًا البكاءُ، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ سلول، فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبَّة بمسمار، وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبره فقال له: اذهب فادعه، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقال: اكسر الضبة فكسرها، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: أنا صَيِّتٌ وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تعيش حميدًا وتقتل شهيدًا وتدخل الجنة؟ فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله، ولا أرفع صوتي أبدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ}.

.تفسير الآية رقم (3):

{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)}
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} الآية. قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب، رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار وانهزمت طائفة منهم، فقال: أفٍ لهؤلاء، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا، ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له: اعلم أن فلانًا رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يسير في طِوَلِهِ، وقد وضع على درعي بُرْمَة، فأت خالد بن الوليد وأخبره حتى يسترد درعي، وأت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له: إن عليّ دَيْنًا حتى يقضى، وفلان من رقيقي عتيق، فأخبر الرجل خالدًا فوجد درعه والفرس على ما وصفه له، فاسترد الدرع، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته.
قال مالك بن أنس: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه.
قال أبو هريرة وابن عباس: لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار.
وقال ابن الزبير: لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته، فأنزل الله تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم}، يخفضون {أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} إجلالا له، {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّه قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصه، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}.

.تفسير الآيات (4- 5):

{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قرأ العامة بضم الجيم، وقرأ أبو جعفر بفتح الجيم، وهما لغتان، وهي جمع الحُجَر، والحُجَرُ جمع الحُجْرَةِ فهي جمع الجمع.
قال ابن عباس: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني العنبر وأَمَّرَ عليهم عيينة بن حصن الفزاري، فلما علموا أنه توجه نحوهم هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة بن حصن وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري، فقدموا وقت الظهيرة، ووافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا في أهله، فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون، وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا ينادون: يا محمد اخرج إلينا، حتى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم فقالوا: يا محمد فَادِنَا عيالنا، فنزل جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو، وهو على دينكم؟ فقالوا: نعم، فقال سبرة: أنا لا أحكم بينهم إلا وعمي شاهد، وهو الأعور بن بشامة، فرضوا به، فقال الأعور: أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد رضيت، ففادى نصفهم وأعتق نصفهم، فأنزل الله تعالى: {إن الذين يُنَادُونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}، وصفهم بالجهل وقلة العقل.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} قال مقاتل: لكان خيرًا لهم لأنك كنت تعتقهم جميعًا وتطلقهم بلا فداء، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وقال قتادة: نزلت في ناس من أعراب بني تميم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب.
ويروى ذلك عن جابر قال: جاءت بنو تميم فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد، فإن مَدْحَنا زين، وَذَمَّنا شين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين، فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشعرائنا وخطبائنا لنشاعرك ونفاخرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا»، فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم: «قم فأجبه»، فأجابه، وقام شاعرهم فذكر أبياتًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: «أجبه» فأجابه. فقام الأقرع بن حابس، فقال: إن محمدًا لَمُؤْتًى له والله ما أدري هذا الأمر، تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يضرك ما كان قبل هذا» ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم، وقد كان تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم، وأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل فيهم: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} الآيات الأربع إلى قوله: {غفور رحيم}.
وقال زيد بن أرقم: جاء ناس من العرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيًا فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكًا نعش في جنابه، فجاؤوا فجعلوا ينادونه، يا محمد يا محمد، فأنزل الله: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم والله غفور رحيم}.

.تفسير الآية رقم (6):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)}
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية، نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقًا، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيمًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهَمَّ أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلناه من حق الله عز وجل، فبدا له الرجوع، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه، وقال له: انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار، ففعل ذلك خالد، ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء، فأخذ منهم صدقاتهم، ولم ير منهم إلا الطاعة والخير، فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} يعني الوليد بن عقبة {بِنَبَإٍ} بخبر، {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا} كي لا تصيبوا بالقتل والقتال، {قَوْمًا} برآء، {بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} من إصابتكم بالخطأ.

.تفسير الآية رقم (7):

{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)}
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} فاتقوا الله أن تقولوا باطلا أو تكذبوه، فإن الله يخبره ويعرفه أحوالكم فتفتضحوا، {لَوْ يُطِيعُكُمْ} أي الرسول، {فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ} مما تخبرونه به فيحكم برأيكم، {لَعَنِتُّمْ} لأثمتم وهلكتم، والعنت: الإثم والهلاك. {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ} فجعله أحب الأديان إليكم، {وَزَيَّنَهُ} حسنه، {فِي قُلُوبِكُمْ} حتى اخترتموه، وتطيعون رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ} قال ابن عباس: يريد الكذب، {وَالْعِصْيَانَ} جميع معاصي الله. ثم عاد من الخطاب إلى الخبر، وقال: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} المهتدون.

.تفسير الآيات (8- 9):

{فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)}
{فَضْلا} أي كان هذا فضلا {مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
قوله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مسدد، حدثنا معتمر قال: سمعت أبي يقول: إن أنسًا قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حمارًا وانطلق المسلمون يمشون معه، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله أطيب ريحًا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنها نزلت: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}.
ويروى أنها لما نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض.
وقال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حق بينهما، فقال أحدهما للآخر: لآخذن حقي منك عنوة، لكثرة عشيرته، وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف.
وقال سفيان عن السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل، وكان بينها وبين زوجها شيء فرقى بها إلى عُلية وحبسها، فبلغ ذلك قومها فجاؤوا، وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال، فأنزل الله عز وجل: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} تعدت إحداهما، {عَلَى الأخْرَى} وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله، {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ} ترجع، {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} في كتابه، {فَإِنْ فَاءَتْ} رجعت إلى الحق، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله، {وَأَقْسِطُوا} اعدلوا، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.